قصص الطفولة وأحلام اليقظة- بين الخيال، الحقيقة، والتوبة

المؤلف: علي بن محمد الرباعي08.27.2025
قصص الطفولة وأحلام اليقظة- بين الخيال، الحقيقة، والتوبة

الأحلام، ذلك العالم الغامض الذي يراودنا في غفلة من الوعي، يختلف الناس في تفسيره وتأويله. فبينما يعتبره البعض مجرد حديث نفس وعكساً لضغوط الحياة اليومية، يرى فيه آخرون إشارات ربانية ورسائل سماوية تحمل بشائر أو تحذيرات. وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك، معتبراً الأحلام نافذة تطل على الصندوق الأسود في اللاوعي، حيث تختبئ الرغبات المكبوتة والأسرار الدفينة. ويؤكد بعض العارفين أنّ رؤى المنام قد تكون أصدق وأنقى من حقائق اليقظة، فهي تعبر عن النفس الإنسانية بصدق وعفوية. ولي مع الأحلام حكاية طريفة تعود إلى أيام الطفولة، عندما كنت مولعاً بتأليف الأحلام واختلاق القصص التي تخدم مصالحي الصغيرة. أتذكر أني رويت لأمي، رحمها الله، حلماً من نسج خيالي المفعم بالبراءة، ادعيت فيه أني رأيت أبي، رحمه الله، قد اشترى لي ثوباً زاهياً بألوان قوس قزح. كانت أمي، ذات القلب الطيب، تحذرني دائماً من مغبة الكذب في الأحلام، قائلة إنّ الكاذب في الحلم سوف يكلفه الله يوم القيامة بعقد حبتي شعير في بعضهما، وهو أمر جلل وشاق. ولكنني، وعلى الرغم من تحذيرها، أقسمت لها كذباً أني لم أكذب. ذات صباح مشرق من أيام الصيف، بينما كنت مكلفاً بحماية الزروع من الطيور الجائعة، خطرت ببالي فكرة مجنونة: قررت أن أعقد حبتي قمح بنفسي، من باب التدرب على هذا الاختبار الصعب الذي ستكلفني به الملائكة. أخذت سنبلة قمح طرية، وفرطت حبها، وبدأت أحاول عقدها، ولكن محاولاتي باءت بالفشل الذريع. لم أيأس، بل واصلت المحاولة مرة تلو الأخرى، بينما كانت الطيور تنقض على مزرعتنا وتعبث بها في غفلة مني. فجأة، ظهر أبي، رحمه الله، وأنا منهمك في الّلت والعجن تحت الحبلة، فمد يده إلى شجرة رمان باسقة، واقتلع منها عوداً غليظاً، وانهال عليّ به ضرباً مبرحاً. عدت إلى البيت وجلدي ملطخ بالكدمات الزرقاء والحمراء، وكانت أمي، رحمها الله، تحاول جاهدة كبح ضحكتها كي لا تزيد من ألمي. دهنت جراحي بمرهم زبدة البقر المهدئ، وهمست قائلة: "حلومكم علومكم، صدّ حلمك بالثوب الملوّن!". لكنني لم أتعلم من تجربتي المؤلمة تلك، ولم أتراجع عن أحلامي الكاذبة. فما أن تلتئم جروح الجسد وتتعافى ندوب الروح، حتى نعود مجدداً إلى ذنوبنا القديمة، ونكرر أخطاءنا بغطرسة، وكأن شيئاً لم يكن. وهكذا كان شأني مع أبي، الذي كنت أروي له أحلاماً خيالية عن الغيوم والأمطار الغزيرة. ولأنه كان يعشق المطر ويهوى رؤيته، كان شديد التفاؤل بأحلامي المنامية. لطالما ردد مقولته الشهيرة: "تباركوا بالنواصي والأقدام والبعض من الذرية"، فكنت أشعر بأني من تلك الذرية المباركة. ولكن فرحتي لم تدم طويلاً، فذات يوم رآى أمي تنشر طراحتي وبطانيتي تحت أشعة الشمس الحارقة، فقال لي بلهجة الواثق: "لا تنسَ تفضي الخزان قبل ما ترقد!". أما الأحلام المصطنعة التي كنت أرويها لرفاق الطفولة، والرعاة والراعييات، فحدث ولا حرج. أتذكر أن إحدى الراعييات من قرية مجاورة كانت تكافئني في كل مرة بتمرات شهية أو حبة فاكهة طازجة. عشقتها من أعماق قلبي، ورسمت لها حلماً وردياً عن خطبتي لها وزواجي بها، وأنني عزمت شيخ القبيلة، والعرفاء، والشعراء، وزففتها بيدي من السيارة الفارهة إلى مجلس الحريم. ولأن الأغنام كانت تتقيأ تحت سدرة وارفة الظل ونحن معها، اندمجت في دور البطولة، ولم أنتبه إلى أن غنمي قد تناقزت من فوق حاجز شجري واقتحمت مزرعة ذرة لأحد المزارعين الغاضبين. أدركنا المزارع ونحن تحت السدرة نتبادل أفكاراً حول ليلة الدخلة، فكتف قدمي بشماغه الغليظ، وقال لي بغضب: "خليك مكانك إلى أن يأتي أهلك ويفكونك". ساق الغنم إلى منزله، وأنا عاجز عن التخلص من قيوده. أما العروس الصغيرة، فقد لحقت بغنمها وتركتني أواجه مصير الصباحية بمفردي. عندها، قررت التوبة النصوح عن أحلامي الكاذبة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة